فصل: حوادث سنة سبع وتسعين ومائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر استيلاء طاهر على المدائن ونزوله بصرصر:

ثم إن طاهراً سار إلى المدائن، وبها جيش كثير للأمين، عليهم البرمكي قد تحصن بهأن والمدد ياتيه كل يوم والخلع، والصلات، فلما قرب طاهر منه وجه قريش بن شبل، والحسين بن علي المأموني فقي مقدمته، فلما سمع أصحاب البرمكي طبول طاهر أسرجوا وركبوأن وأخذ البرمكي في التعبية، فكان كلما سوى صفاً انتقض، واضطرب، وانضم أولهم إلى آخرهم، فقال: اللهم إنا نعوذ بك في الخذلان! ثم قال لصاحب ساقته: خل سبيل الناس، فلا خير عندهم؛ فركب بعضهم بعضاً نحوبغداد فنزل طاهر بالمدائن، واستولى على تلك النواحي، ثم سار إلى صرصر، فعقد بها جسراً ونزلها.

.ذكر البيعة للمأمون بمكة والمدينة:

وفي هذه السنة خلع داود بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي الأمين، وهوعامله على مكة والمدينة، وبايع للمأمون.
وكان سبب ذلك أنه لما بلغه ما كان من الأمين والمأمون وما فعل طاهر، وكان الأمين قد كتب إلى داود بن عيسى يامره بخلع المأمون، وبعث أخذ الكتابين من الكعبة، كما تقدم، فلما فعل ذلك جمع داود وجوه الناس ومن كان شهد من الكتابين، وكان داود أحدهم، فقال لهم: قد علمتم ما أخذ الرشيد علينا وعليكم من العهد والميثاق، عند بيت الله الحرام، لا بنيه، لنكونن مع المظلوم منهما على الظالم ومع المغدور به على الغادر، وقد راينا ورأيتم أن محمداً قد بدأ بالظلم والبغي والغدر والنكث على أخويه المأمون والمؤتمن وخلعهما عاصياً لله، وبايع لابنه، طفل صغير، رضيع لم يفطم، وأخذ الكتابين من الكعبة، فحرقهما ظالمأن فقد رأيت خلعه، والبيعة للمأمون، إذ كان مظلوماص مبغياً عليه.
فأجابوه إلى ذلك، فنادى في شعاب مكة، فاجتمع الناس فخطبهم بين الركن والمقام، وخلع محمدأن وبايع للمأمون، وكتب إلى ابنه سليمان، وهوعامله على المدينة، يأمره أن يفعل مثل ما فعل، فخلع سليمان الأمين، وبايع للمأمون.
فلما أتاه الخبر بذلك سار من مكة على طريق البصرة، ثم إلى فارس، ثم إلى كرمان، حتى صار إلى المأمون بمرو، فأخبره بذلك، فسر المأمون بذلك سروراً شديدأن وتيمن ببركة مكة والمدينة.
وكانت البيعة بهما في رجب سة ست وتسعين ومائة، واستعمل داود على مكة والمدينة، وز أضاف إليه ولاية عك، وأعطاه خمسمائة ألف درهم معونة، وسير معه ابن أخيه العباس بن موسى بن عيسى بن موسى، وجعله على الموسم، فسارا حتى أتيا طاهراً ببغداد، فأكرمهما وقربهمأن ووجه معهما يزيد بن جرير بن يزيد بن خالد بن عبد الله القسري البجلي عاملاً على اليمن، وبعث معه خيلاً كثيفة، فلما قدم اليمن دعا أهلها إلى خلع الأمين والبيعة للمأمون، ووعدهم العدل والإحسان وأخبرهم بسيرة المأمون، فأجابوه إلى ما طلب، وخلعوا محمداً وبايعوه للمأمون، وكتب بذلك إلى طاهر وإلى المأمون، وسار فيهم أحسن سيرة وأظهر العدل.

.ذكر ما فعله الأمين:

وفي هذه السنة عقد محمد الأمين، في رجب وشعبان، نحواً من أبعمائة لواء لقواد شتى، وأمر عليهم علي بن محمد بن عيسى بن نهيك، وأمرهم بالمسير إلى هرثمة بن أعين، فساروا إليه، فالتقوا بنواحي النهروان في رمضان فانهزموأن وأسر علي بن محمد بن عيسى فسيره هرثمة إلى المأمون، ورحل هرثمة فنزل النهروان.

.ذكر وثوب الجند بطاهر والأمين ونزوله ببغداد:

وأقام طاهر بصرصر مشمراً في محاربة الأمين وكان لا يأتيه جيش إلا هزمه، وبذل الأمين الأموال، فاشتد ذلك على أصحاب طاهر، فسار إليه منهم نحوخمسة آلاف، فسر بهم الأمين، وعدهم، ومناهم، وفرق فيهم مالاً عظيمأن وعلف لحاهم بالغالية، فسموا قواد الغالية، وقود جماعة من الحربية، ووجههم إلى دسكرة الملك والنهروان، فلم يكن بينهم قتال كثير،وندب جماعة من قواد بغداد، وجههم إلى إلياس رية، والكوثرية، وفرق الجواسيس في اصحاب طاهر، ودس إلى رؤساء الجند، فاطعمهم، ورغبهم، فشغبوا على طاهر، واستأمن كثير منهم إلى الأمين، فانضموا إلى عسكره، وساروا حتى أتوا صرصرأن فعبأ طاهر أصحابه كراديس، وسار فيهم يمنيهم، ويحرضهم، ويعدهم النصر، ثم تقدم، فاقتتلوا ملياً من النهار، ثم انهزم أصحاب الأمين، وغمن عسكر طاهر ما كان لهم من السلاح والدواب وغير ذلك.
وبلغ ذلك لاأمين فأخرج الأموال وفرقهأن وجمع أهل الأرباض، وقود منهم جماعة، وفرق فيهم الاموال، وأعطى كل قائد منهم قارورة غالية، ولم يفرق في أجناد القواد وأصحابهم شيئاً.
فبلغ ذلك طاهرأن فراسلهم، ووعدهم، واستمالهم، وأغرى أصاغرهم بأكابرهم، فشغبوا على الأمين في ذي الحجة، فصعب الأمر عليه، فأشار عليه أصحابه باستمالتهم والإحسان إليهم، فلم يفعل، وأمر بقتالهم جماعة من المستأمنة والمحدثين، فقاتلوهم، وراسلهم طاهر، وراسلوه، وأخذ رهائنهم على بذل الطاعة، وأعطاهم الاموال.
ثم تقدم، فصار إلى موضع البستان الذي على باب الأنبار، في ذي الحجة، فنزل بقواده وأصحابه ونزل من استأمن إليه من جند الأمين في البستان والأرباص، وأضعف للقواد، وأبنائهم،والخواص،العطاء، ونقب أهل السجون السجون، وخرجوا منهأن وفتن الناس وساءت حالهم، وثب الشطار على أهل الصلاح، ولم يتغير بعسكر طاهر حال لتفقده حالهم، وأخذه على أيدي السفهاء، وغادى القتال، ورواحه، حتى تواكل الفريقان وخربت الديار.
وحج بالناس هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بن موسى، ودعا للمأمون بالخلافة، وهوأول موسم دعي له فيه بالخلافة.

.ذكر الفتنة بإفريقية مع أهل طرابلس:

في هذه السنة ثار أبوعصام ومن وافقه على إبراهيم بن الأغلب، أمير إفريقية، فحاربهم إبراهيم، فظفر بهم.
وفيها استعمل ابن الأغلب ابنه عبدالله على طرابلس الغرب، فلما قدم إليها ثار عليه الجند، فحضروه في داره، ثم اصطلحوا على أن يخرج عنهم، فخرج عنهم، فلم يبعد عن البلد حتى اجتمع إليه كثير من الناس، ووضع العطاء، فأتاه البربر من كل ناحية، وكان يعطي الفارس كل يوم أربعة دراهم، ويعطي الراجل في اليوم درهمين، فاجتمع له عدد كثير، فزحف بهم إلى طرابلس، فخرج إليه الجند، فاقتتلوأن فانهزم جند طرابلس، ودخل عبد الله المدينة، وأمن الناس وأقام بها؛ ثم عوزله أبوه، واستعمل بعده سفيان ابن المضاء، فثارت هوارة بطرابلس، فخرج الجند إليهم، والتقوا واقتتلوأن فهزم الجند إلى المدينة، فتبعهم هوارة، فخرج الجند هاربين إلى لاأمير إبراهيم ابن الأغلب، ودخلوا المدينة فهدموا أسوارها.
وبلغ ذلك إببراهيم ابن الأغلب، فسير إليها ابنه أبا العباس عبد الله في ثلاثة عشر ألف فارس، فاقتتل هووالبربر، فانهزم البربر، وقتل كثير منهم، ودخل طرابلس وبنى سورها.
وبلغ خبر هزيمة البربر إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، وجمع البربر، وحرضهم، وأقبل بهم إلى طرابلس، وهم جمع عظيم، غضباً للبربر ونصرة لهم، فنزلوا على طرابلس، وحصروها. فسد أبوالعباس عبد الله بن إبراهيم باب زناتة، وكان يقاتل من باب هوارة، ولم يزل كذلك إلى أن توفي أبوه إبراهيم بن الأغلب، وعهد بالإمارة لولده عبد الله، فأخذ أخوه زيادة الله بن إبراهيم له العهود على الجند، سير الكتاب إلى أخيه عبد الله، يخبره بموت أبيه، وبالإمارة له، فأخذ البربر الرسول والكتاب، ودفعوه إلى عبد الوهاب بن عبد الرحمن بن رستم، فأمر بأن ينادي عبد الله بن إبراهيم بموت أبيه، فصالحهم على أن يكون البلد والبحر لعبد الله، وما كان خارجاً عن ذلك يكون لعبد الوهاب، وسار عبد الله إلى القيروان، فلقيه الناس، وتسلم الأمر، وكانت أيامه أيام سكون ودعة.

.حوادث سنة سبع وتسعين ومائة:

.ذكر حصار بغداد:

في هذه السنة حاصر طاهر، وهرثمة، وزهير بن المسيب الأمين محمداً ببغداد، فنزل زهير بن المسيب الضبي برقة كلواذى، ونصب المجانيق والعرادات، وحفر الخنادق، وكان يخرج في الإيام عند اشتغال الجند بحرب طاهر، فيرمي بالعرادات، ويعشر أموال التجار، فشكا الناس منه إلى طاهر، فنزل هرثمة نهر بين، وعمل عليه خندقاً وسورأن ونزل عبيد الله بن الوضاح بالشماسية، ونزل طاهر البستان الذي بباب الأنبار.
فلما نزله شق ذلك على الأمين، وتفرق ما كان بيده من الأموال، فأمر ببيع ما في الخزائن من الأمتعة، وضرب آنية الذهب والفضة ليفرقها في أصحابه، وأمر بإحراق الحربية، فرميت بالنفط والنيران وقتل بها خلق كثير.
واستأمن إلى طاهر سعيد بن مالك بن قادم، فولاه الأسواق، وشاطئ دجلة وما اتصل به، وأمره بحفر الخنادق، وبناء الحيطان في كل ما غلب عليه من الدروب، وأمده بالاموال والرجال، فكثر الخراب ببغداد والهدم، فدرست المنازل؛ ووكل الأمين علياً افراهمرد بقصر صالح، وقصر سليمان بن المنصور إلى دجلة، فألح في إحراق الدور والدروب، والرمي بالمجانيق، وفعل طاهر مثل ذلك، فأرسل إلى أهل الأرباض من طريق الأنبار وباب الكوفة وما يليهأن فكلما أجابه أهل ناحية خندق عليهم، ومن أبى إجابته قاتله، وأحرق منزله؛ ووحشت بغداد، وهربت، فقال حسين الخليع:
أتسرع الرحلة إغذاذاً ** عن جانبي بغداد أم ماذا؟

أما ترى الفتنة قد ألفت ** إلى أولي الفتنة شذاذاً

وانتقضت بغداد عمرانها ** عن رأي لا ذاك ولا هذا

هدماً وحرقاً قد أباد أهلها ** عقوبة لاذت بمن لاذا

ما احسن الحالات إن لم تعد ** بغداد في القلة بغدادا

وسمى طاهر الأرباض التي خالفه أهلهأن ومدينة المنصور، وأسواق الكرخ والخلد، دار النكث، وقبض ضياع من لم يخرج إليه من بني هاشم والقواد وغيرهم، وأخذ اموالهم، فذلوأن وانكسروأن وذل الأجناد، وضعفوا عن القتال، إلا باعة الطريق، والعراة، وأهل السجون، والأوباش، والطرارين، وأهل السوق، فكانوا ينهبون أموال الناس.
وكان طاهر لا يفتري في قتالهم، فاستأمن إليه على أفراهمرد، الموكل بقصر صالح، فأمنه، وسير إليه جنداً كثيفأن فسلم إليه ما كان بيده من تلك الناحية، في جمادى الآخرة؛ واستأمن إليه محمد بن عيسى، صاحب شرطة الأمين، وكان مجداً في نصرة الأمين، فلما استأمن هذان إلى طاهر أشفى الأمين على الهلاك وأقبلت الغواة من العيارين، وباعة الطريق، والأجناد، فاقتتلوا داخل قصر صالح قتالاً عظيمأن قتل فيه من أصحاب طاهر جماعة كثيرة، ومن قواده جماعة، ولم تكن وقعة قبلها ولا بعدها اشد على طاهر منها.
ثمخ إن طاهراً كاتب القواد الهاشميين وغيرهم، بعد أن أخذ ضياعهم، ودعاهم إلى الأمان والبيعة للمأمون، فأجابه جماعة منهم: عبد الله بن حميد قحطبة وإخوته، وولد الحسن بن قحطبة، ويحيى بن علي بن ماهان، ومحمد بن أبي العباس الطائي، وكاتبه غيرهم، وصارت قلوبهم معه.
وأقبل الأمين بعد وقعة صالح على الأكل والشرب، ووكل الأمر إلى محمد بن عيسى بن نهيك،وإلى الهرش، فكان من معهما من الغوغاء والفساق يسلبون من قدروا عليه، وكان منهم ما لم يبلغنا مثله.
فلما طال ذلك بالناس خرج من بغداد من كانت به قوة، وكان أحدهم إذا خرج أمن على ماله ونفسه، وكان مثلهم كما قال الله: {فضرب بهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب} الحديد: 13 وخرج عنهم قوم بعلة الحج، ففي ذلك يقول شاعرهم:
أظهروا الحج وما ينوونه ** بل من الهرش يريدون الهرب

كم أناس أصبحوا في غبطة ** وكل الهرش عليهم بالعطب

وقال بعض فتيان بغداد:
بكيت دماً على بغداد لما ** فقدت غضارة العيش الأنيق

تبدلنا هموماً من سرور ** ومن سعة تبدلنا بضيق

اصابتنا من الحساد عين ** فأفنت أهلها بالمنجنيق

فقوم أحرقوا بالنار قسراً ** ونائحة تنوح على غريق

وصائحة تنادي: واصباحاً ** وباكية لفقدان الشقيق

وحوراء المدامع ذات دل ** مضمخة المجاسد بالخلوق

تفر من الحريق إلى انتهاب ** ووالدها يفر إلى الحريق

وسالبة الغزالة مقلتيها ** مضاحكها كلألاء البروق

حيارى هكذا ومفكرات ** عليهن القلائد في الحلوق

ينادين الشفيق ولا شفيق ** وقد فقد الشفيق من الشفيق

ومغترب قريب الدار ملقى ** بلا رأس بقارعة الطريق

توسط من قتالهم جميعاً ** فما يدرون من أي الفريق

فما ولد يقيم على أبيه ** وقد فر الصديق عن الصديق

ومهما أنس من شيء تولى ** فإني ذاكر دار الرقيق

وقال الجرمي قصيدة طويلة نحومائة وخمسين بيتاً أتى فيها على جميع الحوادث ببغداد، في هذه الحرب، تركتها لطولها.
وذكر أن قائداً من أهل خراسان، من أصحاب طاهر، من اهل النجدة والبأس، خرج يوماً إلى القتال، فنظر إلى قوم عراة لا سلاح معهم، فقال لأصحابه: ما يقاتلنا إلا من نرى استهانة بأمرهم، واحتقاراً لهم، فقيل له: نعم! هؤلاء هم الآفة؛فقال لهم: أف لكم حين تنهزمون من هؤلاء، وأنتم في السلاح والعدة والقوة، وفيكم الشجاعة، وما عسى يبلغ كيد هؤلاء ولا سلاح معهم، ولا جنة تقيهم! وتقدم إلى بعضهم، وفي يديه بارية مقيرة، وتحت إبطه مخلاة فيها حجارة، فجعل الخراساني كلما رمي بسهم استتر منه العيار فوقع في باريته، أوقريباً منهأن فياخذه، ويتركه معه، وصاح: دانق، أي ثمن النشابة دانق قد أحرزه، فلم يزالا كذلك حتى فنيت سهام الخراساني، ثم حمل عليه العيار، ورمة بحجر من مخلاته في مقلاع،فما أخطأ عينه، ثم آخر، فكاد يصرعه، فانهزم وهويقول: ليس هؤلاء بناس.
فلما سمع طاهر خبره ضحك منه، فلما طال ذلك على طاهر، وقتل من أصحابه في قصر صالح من قتل، أمر بالهدم والإحراق، فهدم دور من خالفه من بين دجلة ودار الرقيق، وباب الشام، وباب الكوفة، إلى الصراة وربض حميد، ونهر كرخابأن فكان أصحابه إذا هدموا داراً أخذ أصحاب الأمين أبوابها وسقوفهأن فيكونون أشد على أهلهأن فقال شاعر منهم:
لنا كل يوم ثلمة لا نسدها ** يزيدون فيما يطلبون وننقص

إذا هدموا داراً أخذنا سقوفها ** ونحن لأخرى غيرها نتربص

فإن حرصوا يوماً على الشر جهدهم ** فغوغاؤنا منهم على الشر أحرص

فقد ضيقوا من أرضنا كل واسع ** وصار لهم أهل بها وتعرص

يثيرون بالطبل القنيص، فإن بدا ** لهم وجه صيد من قريب تقنصوا

لقد أفسدوا شرق البلاد وغربها ** علينا فما ندري إلى أين نشخص

إذا حضروا قالوا بما يعرفونه ** وإن لم يروا شيئاً قبيحاً تخرصوا

وما قتل الأبطال مثل مجرب ** رسول المنايا ليلة يتلصص

فيأبيات غيرهأن فلما رأى طاهر أن هذا جميعه لا يحفلون به، أمر بمنع التجار عنهم، ومنع من حمل الأقوات وغيرهأن وشدد في ذلك، وصرف السفن التي يحمل فيها إلى الفرات، فاشتد ذلك عليهم، وغلت الأسعار، وصاروا في اشد حصار؛ فأمر الأمين ببيع الاموال، وأخذهأن ووكل بها بعض أصحابه، فكان يهجم على الناس في منازلهم ليلاص ونهارأن فاشتد ذلك على الناس، وأخذوا بالتهمة والظنة.
ثم كان بينهم وقعة بدرب الحجارة، قتل فيها من اصحاب طاهر خلق كثير، ووقعة بالشماسية خرج فيها حاتم بن الصقر في العيارين وغيرهم إلى عبيد الله بن الوضاح، فاوقعوا به، وهولا يعلم، فانهزم عنهم، وغعلبوه على الشماسية، فأتاه هرثمة يعينه، فأسره بعض أصحاب الأمين، وهولا يعرفه، فقاتل عليه بعض أصحابه، حتى خلصه، وانهزم أصحاب هرثمة، فلم يرجعوا يومين.
فلما بلغ طاهراً ما صنعوا عقد جسراً فوقالشماسية، وعبر أصحابه إليهم، فقاتلوا أشد قتال، حتى ردوا أصحاب الأمين، وأعاد أصحاب عبيد الله بن الوضاح إلى مراكزهم، وأحرق منازل الأمين بالخيزرانية، وكانت النفقة عليها بلغت عشرين ألف ألف درهم، وقتل من العيارين كثير، فضعف أمر الأمين، فأيقن بالهلاك، وهرب منه عبد الله بن خازم بن خزيمة إلى المدائن، خوفاً من الأمين، لأنه اتهمه، وتحامل عليه السفلة والغوغاء، فأقام بهأن وقيل بل كاتبه طاهر، وحذره قبض ضياعه وأمواله.
ثم إن الهرش خرج ومعه لفيفة وجماعة إلى جزيرة العباس، وكانت ناحية لم يقاتل فيهأن فخرج إليه وبعض أصحاب طاهر، فقاتلوه، فقوي عليهم، فأمدهم طاهر بجند آخر، فأوقعوا بالهرش وأصحابه وقعة شديدة، فقرق منهم بشر كثير.
وضجر الأمين وخاف حتى قال يوماً: وددت أن الله قتل الفريقين جميعاً فأراح الناس منهم، فما منهم إلا عدولي، أما هؤلاء فيريدون مالي، وأما أولئك فيريدون نفسي؛ وضعف أمره، وانتشر جنده، وأيقن بظفر طاهر به.

.ذكر عدة حوادث:

وحج بالناس هذه السنة العباس بن موسى بن عيسى بتوجيه طاهر إياه على الموسم بأمر أمير المؤمنين المأمون.
وفيها سار المؤتمن بن الرشيد، ومنصور بن المهدي إلى المأمون بخراسان، فوجه المأمون أخاه المؤتمن إلى جرجان.
وفيها كان بالأندلس غلاء شديد، وكان الناس يطوون الأيام، ويتعللون بما يضبط النفس.
وفيها مات وكيع بن الجراح الرؤاسي بفيد، وقد عاد عن الحج؛ وبقية ابن الوليد الحمصي، وكان مولده سنة عشر ومائة؛ ومحمد بن مليح بن سليمان الأسلمي؛ ومعاذ بن معاذ أبوالمثنى العنبري وله سبع وسبعون سنة.

.حوادث سنة ثمان وتسعين ومائة:

.ذكر استيلاء طاهر على بغداد:

في هذه السنة لحق خزيمة بن خازم بطاهر، وفارق الأمين، ودخل هرثمة إلى الجانب الشرقي.
وكان سبب ذلك أن طاهراً أرسل إلى خزيمة أن انفصل الأمر بيني وبين محمد، ولم يكن لك في نصرتي، ألا أقصر في أمرك! فأجابه بالطاعة، وقال له: لوكنت أنت النازل الجانب الشرقي في مكان هرثمة لحمل نفسه إليه، وأخبره قلة ثقته بهرثمة، إلا أن يضمن له القيام دونه لخوفه من العامة، فكتب طاهر إلى هرثمة يعجزه، ويلومه، ويقول: جمعت الأجناد، وأتلفت الأموال، وقد وقفت وقوف المحجم عمن بإزائك، فاستعد للدخول إليهم، فقد أحكمت الأمر على دفع العسكر، وقطع الجسور، وأرجوأن لا يختلف عليك اثنان.
فأجابه هرثمة بالسمع والطاعة، فكتب طاهر إلى خزيمة بذلك، وكتب إلى محمد بن علي بن عيسى بن ماهان بمثل ذلك؛ فلما كان ليلة الأربعاء لثمان بقين من المحرم، وثب خزيمة ومحمد بن علي بن عيسى على جسر دجلة فقطعاه، وخلعا محمد الأمين، وسكن أهل عسكر المهدي، ولم يدخل هرثمة حتى مضى إليه نفر من القواد وحلفوا له أنه لا يرى منهم مكروهأن فدخل إليهم، فقال الحسين الخليع في ذلك.
علينا جميعاً من خزيمة منة ** بما أخمد الرحمن نائرة الحرب

تولى أمور المسلمين بنفسه ** فذب وحامى عنهم أشرف الذب

ولولا أبوالعباس ما انفك دهرنا ** ينيب على عتب ويعدوعلى عتب

خزيمة لم يذكر له مثل هذه ** إذ اضطربت شرق البلاد مع الغرب

أناخ بجسري دجلة القطع والقنا ** شوارع والأرواح في راحة الغضب

وهي عدة أبيات، فلما كان الغد تقدم طاهر إلى المدينة والكرخ، فقاتل هناك قتالاً شديدأن فهزم الناس، حتى الحقهم بالكرخ، وقاتلهم فيه، فهزمهم، فمروا لا يلوون على شيء، فدخلها طاهر بالسيف، وأمر مناديه، فنادى: من لزم بيته فهوآمن؛ ووضع بسوق الكرخ وقصر الوضاح جنداً على قدر حاجته، وقصد إلى مدينة المنصور، وأحاط بهأن وبقصر زبيدة، وقصر الخلد، من باب الجسر إلى باب خراسان، وباب الشام، وباب الكوفة، وباب البصرة، وشاطئ الصراة إلى مصبها في دجلة.
وثبت على قتال طاهر حاتم بن الصقر والهرش، والأفارقة، فنصب المجانيق بإزاء قصر زبيدة، وقصر الخلد؛ وأخذ الامين أمه وأولاده إلى مدينة المنصور، وتفرق عنه عامة جنده وخصيانه وجواريه في الطريق، لا يلوي أحد على احد، وتفرق السفلة والغوغاء، وتحصن محمد بمدينة المنصور، وحصره طاهر، وأخذ عليه الأبواب.
وبلغ خبر هذه الوقعة عمر الوراق، فقال لمخبره: ناولني قدحاً؛ ثم تمثل:
خذها فللخمرة أسماء ** لها دواء ولها داء

يصلحها الماء إذا اصفقت ** يوماً وقد يفسدها الماء

وقائل كانت لهم وقعة ** في يومنا هذا وأشياء

قلت له: أنت امرؤ جاهل ** فيك عن الخيرات إبطاء

إشرب ودعنا من أحاديثم ** يصطلح الناس إذا شاؤوا

وحكى إبراهيم بن المهدي أنه كان مع الأمين لما حصره طاهر، قال: فخرج الأمين ذات ليلة يريد أن يتفرج من الضيف الذي هوفيه، فصار إلى قصر له بناحية الخلد، ثم أرسل إلي فحضرت عنده، فقال: ترى طيب هذه الليلة، وحسن القمر في السماء، وضوءه في الماء على شاطئدجلة، فهل لك في الشرب؟ فقلت: شأنك؛ فشرب رطلأن وسقاني آخر، ثم غنيته ما كنت أعلم أنه يحبه، فقال لي: ما تقول فيمن ضرب عليك؟ ما أحوجني إليه! فدعا بجارية متقدمة عنده، اسمها ضعف، فتطيرت من اسمهأن ونحن في تلك الحال، فقال لها: غني، فغنت بشعر الجعدي:
كليب لعمري كان أكثر ناصراً ** وأيسر جرماً منك ضرج بالدم

فاشتد ذلك عليه، وتطير منه، وقال: غني غير ذلك، فغنت:
أبكي فراقكم عيني فأرقها ** إن التفرق للأحباب بكاء

ما زال يعدوعليهم ريب دهرهم ** حتى تفانوا وريب الدهر عداء

فقال لها: لعنك الله! أما تعرفين من الغناء غير هذا؟ فقال: ما تغنيت إلا ما ظننت أنك تحبه، ثم غنت آخر:
أما ورب السكون والحرك ** إن المنايا كثيرة الشرك

ما اختلف الليل والنهار وما ** دارت نجوم السماء في الفلك

إلا لنقل السلطان عن ملك ** قد زال سلطانه إلى ملك

وملك ذي العرش دائم أبداً ** ليس بفان ولا بمشترك

فقال لها: قومي، غضب الله عليك ولعنك فقامت، وكان له قدح من بلور، حسن الصنعة، كان يسميه رب رياح، وكان موضوعاً بين يديه، فعثرت الجارية به، فكسرته، فقال: ويحك يا إبراهيم! ما ترى ما جاءت به هذه الجارية، ثم ما كان من سر القدح؟ والله ما أظن أمري إلا وقد قرب! فقلت: يديم الله ملكك، ويعز سلطانك، ويكبت عدوك! فما استتم الكلام حتى سمعنا صوتاً من دجلة: {قضي الأمر الذي فيه تسفيان} يوسف: 41. فقال: يا إبراهيم أما سمعت ما سمعت؟ قلت: ما سمعت شيئأن وكنت قد سمعت: قال تسمع حسنأن فدنوت من الشط، فلم أر شيئاً، ثم عاودنا الحديث، فعاد الصوت بمثله، فقام من مجلسه مغتماً إلى مجلسه بالمدينة، فما مضى إلا ليلة أوليلتان حتى قتل.